سقوط خرمشهر

طرح اسم ابو الحسن بني صدر في ايران ليكون رئيسا للجمهورية كان متزامنا مع تدريس الامام الشيرازي (رحمه الله) موضوع الاقتصاد في بحث الخارج، ولم يكن الموضوع مطروح للنقاش  في الحوزة العلمية الى ذلك اليوم على انه موضوع فقهي، وكل من ناقش الموضوع من العلماء كان  ينظر اليه على اساس موضوع فكري بحت لا كأنه موضوع فقهي.

وكان الحضورفي الدرس  بشكل غريب ومكثّف، لان مناقشة الموضوع وفي هذا الوقت الحسّاس من زاوية الفقه،  كان لاول مرة في تاريخ الشيعة اولا، ومن ثم انه يعتبر بحث سياسي في هذا الوقت بالذات، حيث ان الثورة في بداية نموها السياسي والفكري ثانيا،اضف الى ذلك: ان انتخاب موضوع الاقتصاد من وجهة نظر الامام (رحمه الله ) في ذلك الوقت كان بمثابة دعم فكري للنظام وسد للثغرات الموجودة بعد الثورة.

اذ أن النظام الايراني والحوزة العلمية كانا بحاجة ماسة الى مناقشة مثل هذه  المواضيع الفكرية و الجديدة ، من جهة اخرى، فان المسؤولين كانوا منشغلين بادارة الدولة وغير متفرغين لمناقشة المسائل الفكرية، وتركهم على هذا الحال كان بمثابة ضربة قوية وطعنة من الخلف للثورة، فان  الاستعمار والحركات الفكرية المنحرفة تنتهز مثل هذه الفرص لتطرح ماتريد. وبما ان الدولة والجيل الذي يريد الوصول الى الحكم منشغل، ولايتمكن من دراسة هذه الافكار والرؤى(والبرلمان في تقنينه)  والدولة في مجال التطبيق كانت بحاجة الى ذلك، فكما كان طرح هذا الموضوع مفيد للنظام، كذلك كان تركه مفيد للمستغلين .

 وكان( رحمه الله) قسّم مباحث الاقتصاد الى اربع:

الاقتصاد الرأس مالي (الغربي).

الاقتصاد الشيوعي (الشرقي).

الاقتصاد التوزيعي الالتقاطي(لم يُناقش بهذا الاسم من قبل الا ان الرئيس الليبي معمرالقذاقي ناقشه في الكتاب الاخضر ثم اضاف اليه بني صدر بعض الروايات وسمّاه الاقتصاد التوحيدي).

والاقتصاد الاسلامي (كما هو رأي الاسلام).

وكان الشيوعييون آنذاك  متسترين بستار الثورة ، حتى ان حزب تودة الايراني (الشعب) اعلن في صحفه الكثيرة الانتشار بخط ومانشيت عريض: (حزب توده درخط امام) يعني: حزب الشعب منصهر في نهج الامام الخميني.

لذلك اعتبر بعض الشباب من رجال الدين ان طرح مثل هذا الموضوع اليوم مضر للثورة!! بينما لم يعترضوا على مناقشة آراء العلماء السابقين والافكار الاخرى المطروحة على الاطلاق، مع ان مثل هذه العقلية يجب ان تقول: ان مناقشة هذه الافكار تؤدي الى التفرقة بين المسلمين!!

وعلى اية حال، فقد طال مبحث الاقتصاد  حتى وصل بني صدر الى سدة الحكم عبر الانتخابات وحصل على تأييد الامام الخميني (رحمه الله) والذي يعتبر- حسب الدستور الايراني- بمثابة منح شرعية للرئيس المنتخب من قبل الناس (اذ لا اعتبار في رأي الناس مهما كان العدد مالم يصدّق عليه القائد الاعلى في ايران).

وكان بني صدر محبوبا عند الشعب كما هو اليوم بالنسبة للاصلاحيين.

وكان يبذل جهده لتطبيق الاقتصاد التوحيدي على اساس انه الاقتصاد الاسلامي الحقيقي. الا ان الامام الشيرازي (رحمه الله) كان لايرى فيه الصواب وناقش الادلة والردود عليه في كتابه القيم: (الفقه الاقتصاد) الذي يعتبر جزء من الدورة الفقهية الكبرى ذات الماية والخمسون مجلد.

وطوال هذه الفترة كنت انا الرابط بين مكتب الامام الشيرازي(رحمه الله) ووسائل الاعلام ، وكذلك مع بعض نواب البرلمان الايراني والمسؤولين من الدرجة المتوسطة طبعاً، و كانت الصحف الايرانية المرتبطة بالنظام – وبامرمن المسؤولين اوالمخابرات- لاتطبع بيانات الامام الشيرازي(الا ما خرج بالدليل!) الا ان صحيفة انقلاب اسلامي التي اسسها السيد ابو الحسن بني صدر كانت تطبع البيانات مع استحياء!!

واقول مع استحياء، لأن الموظفين في هذه الصحيفة كانوا بعيدين من اجواء رجال الدين ولم يعرفوا الموازين الحاكمة في الحوزات العلمية، مثل: أية الله العظمى، اوحجة الاسلام، اوالمرجع الاعلى، وكذلك : الحسيني والموسوي  و… ولذلك كانت البيانات التي تطبع في صحيفة انقلاب اسلامي مغلوطة احيانا او فاقدة لبعض الموازين.

وكان مسؤول الصحيفة في قم والرابط بين بني صدر والحوزة و رجال الدين( وكذلك مؤسس اذاعة قم التي استحدثها بني صدر في ذلك الوقت) شاب مثقف ونشط  باسم حاجي باشي، وكان يتابع قضايا الحرب العراقية الايرانية وجديد الاخبار بجدية.

وفي يوم من الايام طلبني الامام الشيرازي وقال: هل تعرف أحد له علاقة مميزة مع بني صدر؟

قلت: نعم، و حسب معرفتي بالجاجي باشي فانه مرتبط تماما ويتمكن من أي شيئ يُطلب منه.

وكانت معرفتي به ارتباطه الوثيق بالرئيس الايراني وكان محباً للامام الشيرازي(رحمه الله)  ومعتقداً بافكاره السياسية وتصوراته.

فكلفني الامام (رحمه الله) باحضار حاجي باشي في اقرب وقت.

وجاء حاجي باشي مستغرباً احضاره في هذا الوقت من الليل حيث تمكنت من الاتصال به في ساعة متأخرة.

فقال له الامام (رحمه الله): بامكانك الذهاب الى طهران واللقاء مع بني صدر وبسرية تامة؟

قال: نعم.

فقال له الامام: ان مدينة خرمشهر(وكما يسميها العرب: المُحمّرة) في خطر وأتصور ان الجيش العراقي سوف يشن الهجوم من هناك،  واذا كان كذلك فانه يعني قتل الابرياء من الناس والدمار الكامل لهذه المدينة و… ويمكن تدارك الموضوع بارسال جيش قوي مع العدة والعدد، هذا اذا لم يكن قد فات الوقت!!.

ورأيت آثار الدهشة في وجه الحاجي باشي مع الشك في قبول الخبر،حيث ان السياسيين لم يتوقعوا اطلاع رجال الدين والمرجعية الشيعية بالقضايا السياسية، فكيف يفهموا اهتمامهم واطلاعهم بالقضايا العسكرية، وبما ان الموضوع كان في غاية الاهمية لذلك اهتم به وغادر قم في نفس الوقت ليلتقي بالرئيس بني صدر.

وبالطبع بعد جهد كبير حيث تمكن من الاتصال به وأخذ الموعدعلى عجالة لخطورة الموضوع.

وفي اليوم الثاني جائني بهدوء وطلب مقابلة الامام (رحمه الله) وقال له: الرئيس يسلم عليكم ويقول: الاخبار الواصلة اليكم غير دقيقة ومدينة خرمشهر آمنة ولاخوف عليها على الاطلاق!

ورأيت الامام (رحمه الله) وكأنه انصدم من الجواب صدمة قوية ربما تؤدي بحياته…

ولاول مرة في حياتي رأيت الامام (رحمه الله) لم يودع زائر ولم يقم احتراما له. اذكان ( رحمه الله) يقوم لكل قادم ومودع وان كان طفلا صغيراً. واليوم اراه مغيّرًا اسلوبه الممّيز.

وبعد ان غادر حاجي باشي منزل الامام جئت اليه (رحمه الله) لاكمال الحديث او … فقال لي (والاضطراب ظاهر في وجهه الشريف): إما حاجي باشي كاذب وانه لم يذهب الى بني صدر ولم ينقل الخبر اليه او…!

ثم اضاف: خرمشهر ستسقط لامحالة!

وكان كما قال( رحمه الله) بعد يومين او ثلاث!

وسقطت خرمشهر والقتلى في كل مكان حتى المناطق المقدسة كالمساجد و…لم تسلم من القصف والدمار وتمزيق القرآن.

ورأيت كيف انقلبت الموازين على بني صدر وماذا حصل له، بعد تلك التأييدات التي حصل عليها من قبل الامام الخميني(رحمه الله) الى ابعد الحدود.

ولا انسى الحوار الذي دار بين الامام واحد كبار الحوزة من المرتبطين بالدولة آنذاك، والتاركين الجانب السياسي اليوم .

فقد اعترض على الامام (رحمه الله) وقال له: كيف تتعرض لبني صدر وهو مقرب من الامام الخميني  وهو اليوم رئيس الجمهورية و… وهل بينكم وبينه شيئ؟

فاجابه (رحمه الله) وهل بيننا وبين الشيخ الطوسي والشيخ المفيد(قدس الله اسرارهم) وغيرهما من الاعلام شيْ عندما نناقش آرائهم وافكارهم ؟

ثم اضاف: الحوزة العلمية تفتخر على طول الدهر باستقلاليتها وحريتها وفي الحديث الشريف: اذا ظهرت البدع فعلى العالم ان يظهر علمه والا فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين.

وبعد فترة سألته (رحمه الله) عن مصدر الخبر في قضية خرمشهر، فقال: المتابع للاعلام يفهم ماذا سيحصل وفي أي بقعة من الارض…

وقد حدث لي مرات عديدة اسأله عن مثل هذه الاخبار ويجيبني مثل ذلك ولا اشك في كلامه. اذ ثبت لي وبالدلائل والبراهين صحة كلامه.

الا ان مايختلج في صدري ولم احصل على جواب له(وان قلت مافي صدري لأنكر عليّ الصديق من الغلوّ والعدومن … ) كلام سمعته من المرحوم السيد محمد السبزواري نجل المرحوم المقدس السيد عبد الاعلى السبزواري(رحمهما الله وقدس سرهما) مباشرة عند قدومه الى ايران نقلاً عن والده: ان السيد محمد و… (لا اذكراسم الثاني مادام حياً) عندهم من العلوم الغريبة والاذكار والدعوات قل نظيرها في العصر الحاضر…

ولذلك كان يقول (رحمه الله) انه حجة .. اعرفوا قدره.

وسألت الامام الشيرازي(رحمه الله) عن كلام السيد السبزواري فكان يتهرب من الجواب دائماً.

فسلام عليه يوم ولد ويوم مات مظلوما (بما للكلمة من معنى) ويوم يخلق حيّا.

13/1/2002

واشنطن – امريكا

شارك مع: