لاامان في العراق

خرج الامام (رحمه الله) من العراق كخروج موسى خائفاً يترقبُ، مفرّع الرأس واضعاً عمامته على  يديه وقطرات الدمع تنزل على خديه الشريفتين وشفتاه تتحرك .

لا ادري ماذا يقرأ في دعائه وذكره الا انني سمعته ختم دعاءه بقوله: اللهم احفظهم بحفظك …

فتصورت انه يدعو لأهله واقربائه او للسيد كاظم القزويني (الذي اصبح في واجهة المسؤولية في كربلاء خلفاً للامام) والسيد صادق حفظه الله.

وكلما حاولت السؤال منه او الكلام معه في تلك اللحظة منعني حال تضرعه مع الله، اذ رأيته في حالتين مختلفتين :

فمن جهة، التضرع والانابة الى الله حيث كان واضعا رأسه على كتفه الايسر وكأنه مسكيناً يطلب الحاجة وبالحاح او طفلاً يطلب من والديه وهو يراهم ويتوسل اليهم، وكأنه يرى الذي يتكلم معه ويأخذ ويعطي في الكلام ..

ومن جهة ثانية، كان واثقاً من نفسه، مطمئناً في مايعمل، ولا كأنه يعبر الحدود العراقية والاجراءات المفروضة على مثله .

ففي دول الشرق الاوسط والكبت الموجود، يسيطرعلى المسافرحالة من الهول لكثرة الاجراءات المفروظة على الحدود او ان الاضظراب ناتج عن القوانين التي تنبت من الارض كالزرع، وبالطبع كلها لأجل امن المواطن!! فالخوف امر طبيعي لدى الشرق اوسطيين عند السفر ذهاباً كان او اياباً براً كان اوجواً اوبحراً .

لكني كنت اراقب حاله وانظر اليه في المرآة بدقة كما انظر الى الطريق .

وبعد فترة وفي الكويت سألته : سيدي، لمن كنت تدعواثناء مغادرتك الاراضي العراقية وبتلك الحالة ؟

فأجابني قائلا: ترك ارض علي والحسين(عليهم السلام) صعب للغاية الا انه ترك ايتام آل محمد، الشباب والمثقفين من الرجال والنساء الذين كنت ولازال اراهم في خطر امر اصعب بكثير، فأنك تبذل الجهد لتربية جيل يكون خادما للحسين (ع) ومنتظراً لظهور الحجة(عجل الله فرجه الشريف) وتتركهم في فم الذئاب وانت تعلم انك لاترجع اليهم ولا تتمكن من مساعدتهم الا القليل.

فقلت له: انت واثق من عدم العودة الى العراق؟

قال: نعم هكذا اتصور، والامر بيد الله.

وبعد ذلك بيوم واحد تكررت العملية مع السيد صادق الشيرازي حفظه المولى ورعاه .

هذا ماقاله المرحوم السيد ثابت آل ثابت الذي تولى مساعدة الامام (رحمه الله) لمغادرة العراق بعد ان منع من السفر و …

وفي الكويت لم يدخل الامام المعترك السياسي ظاهراً وحول العراق بالذات،  وذلك لملاحظة وضع الشباب الذين خلّفهم في العراق وهم في أسوأ حال، اذ كان هناك بعض الشيء ولم يبوح به رحمه الله حتى الموت، او لدقة الحالة الشيعية في الكويت والخليج آنذاك .

الا انه كان يجتمع مع كبار الشخصيات الدينية والمرتبطة بالعراق والقادمين منه وكذلك عبر الوسائط التي تربطه مع الامام السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله) ويحثهم على التحرك الثقافي ويدعمهم بكل مالديه من قدرة (بما للكلمة من معنى) وكان يقول: العراق لا امان له .

وعندما جاء الى ايران بعد الثورة المباركة بذل جهده لتربية الشباب العراقيين تربية جهادية ليكونوا النوات لعراق المستقبل .

وفي ايران اسس الجيش الاسلامي لتحرير العراق وصرف من وقته وماله لدعم القظية العراقية اكثر من أي مرجع شيعي على الاطلاق وعلى وجه الارض !

واختلف الايرانييون معه حول اسلوبه التربوي بالنسبة الى الجيش الاسلامي لتحرير العراق واغلقوا مكاتب الجيش في قم وطهران واعتقلوا بعض الشباب، وكانوا يودون استغلال الجيش قبل نضجه ويزجونهم في المعترك العسكري وفي الجبهات ، وهذا ماكان رحمه الله يختلف معهم في الاستراتيجية اختلافاً كلياً.

فانه كان يرى تربية الكادر ليوم العُسرة وعند اللزوم (مثلا كما حصل اثناء الانتفاضة) لا كما ترتأيه الانظمة وفي أي وقت .

فانهم حفظهم الله كانوا يرسلون الشباب ليفجروا انفسهم تحت المدافع وبدل العتاد ويصنعوا منهم الابطال ونماذج يقتدي بهم الجيل المراهق ويحرّك عواطف الشعب، كما حصل ذلك بالنسبة الى المراهق الايراني (حسين فهميدة) اثناء الحرب، الا انه (رحمه الله)  كان يرى حرمة ذلك . وقس على ذلك فعلل وتفعلل و …

لايقال: ان الضرورات تقدر بقدرها وهذا العمل اذا كان من باب الظرورة فلامانع !

اذ يقال : ان اصل الحرب كان لغيرالضرورة ، بل (كما يقول العراقييون) كان لمواجهةً الصحوة الدينية والمذهبية ومنع استيراد الثورة من ايران ، و(كما يقول الايرانييون) كان لأجل تصدير الثورة واظهار الحق والاسباب الحقيقية ستظهر فيما بعد …

وعندما اعلمته رحمه الله في عام1997 بسفر احد الاصدقاء المعتمدين الى العتبات المقدسة في العراق طلب منّي مناقشة بعض المواضيع معه حول  المرجعية الشيعية في النجف الاشرف وكان منها ان طلب منهم مغادرة العراق، وكان ممن نوقش معه الموضوع المرحوم الشيخ الغروي(رحمه الله) في قصة مفصلة سأذكر تفصيلها في وقت آخر، الا انه وكما كان معتقد المرحوم الخوئي قال: المجاورة احب الي من المغادرة .

وفي نظري ان المرجعية الشيعية، شأنها شأن غيرها، تلاحظ مسألة الأمن والحرية والاستقلالية في القرار والفتوى. وبما ان الحرية شرط في المرجعية وانهم قالوا بعدم جواز تقليد العبد والمرأة وامثالهم و… وبما ان تجربة المراجع الذين غادروا العراق كانت غير ناجحة، اذ ان المرجعية عموما مُجبرة في المشاركة في امور لم تراها لازمة (على الاقل)، او ان دولا تفرض عليها شروط لايجوز العمل بها الا للظرورة وما الى ذلك .

واتذكر ان ممثل احد المراجع الكبار قال لي شخصياً: انني ادفع ثلث ما اقبضه من الحقوق الشرعية الى الدولة ضريبة لبقاء المرجعية ومع ذلك يطلبون المزيد، وعند الاضطرار اوافق على بعض مشاريع الدولة وادفع مصاريفها وانا مكره عليه و …

وكذلك اتذكر ان دولة شرق اوسطية جمدت ارصدة ممثل الامام الخوئي ومن ثم صادرتها في زمن حياته (رحمه الله) وهكذا دواليك …

فالمرجع حي بحياة الحوزة العلمية (كما السمك حي بوجود الماء) واستقلاليتها ونشاطها، وهذا مع الاسف غير موجود على وجه الارض، والامور نسبية بالطبع .

فالخروج من العراق يستوجب النشاط الاكثر والناس لايعرفون الوضع كما يعرفه المرجع، ولو صرّح به كان التصريح مواجهة، ومن ثم انه مفسد في الارض ومخالف لل…..

ولا انسى ماكتبه الشيخ آذري قمي (وكان مسؤول جريدة رسالت آنذاك ومن المقربين للنظام وهو الذي اقترح على الدولة بالفصل كما قال) في كتابه: (رساله علمية) بعد وفاة المرحوم السيد الخميني وزعامة المرحوم الاراكي وفصل المرجعية الدينية عن الزعامة السياسية، وانا علّقت عليه في اوراق (حوالي 300صفحة) صودرت مع الاوراق والمستندات التي استولت عليها وزارة الاستخبارات الايرانية (الاطلاعات) في سنة 1994م حيث انه كان يرى موقع المرجعية العليا بالنسبة الى الزعامة السياسية في ايران كالآتي :

على المرجع الاعلم ان يكون مستشاراً للقائد .

ولو افتى مي مثل(قوانين الخدمة العسكرية الاجبارية واخذ الضرائب او ضريبة العمار وان كان للظرورة) وكان فتوى المرجع الاعلى مخالفا لفتوى القائد، فيحكم على المرجع الاعلم بالاعدام !!

وما الى ذلك مما هو موجود في الكتاب وهو مطبوع وموجود عند دار الفكر في شارع موزة في قم المقدسة وللمتتبع مراجعته .

فهل ينبغي للمرجعية بيان ما تلاقيه من مشاكل في مثل ايران الاسلام او انها تسكت خوفا او طمعا ً؟

فالسكوت يعتبر سكوت عن الحق .

ولوقال بما يعلم فالتعتيم الاعلامي يؤدي الى ما ادى اليه كلام الشيخ الوحيد الخراساني في درس الخارج حول سبب استقالته من المرجعية، وكذلك ما اعترض عليه فيما بعد، ومن قبله كلام المراجع الاخرين امثال :

المقدس السيد احمد الخوانساري ، والسيد الشريعتمداري، والسيد الحجت، والامام الشيرازي، والشيخ شبير الخاقاني، والسيد حسن القمي، والسيد صادق الروحاني والسيد محمد الروحاني (الذي دفن في منزله بعد ان قوبل بمنع الدفن في المكان الموصي به) والسيد شهاب
الدين المرعشي، والسيد رضا الصدر، والشيخ حسن سعيد، والسيد الشهرستاني، وآخرين (رحم الله الماضين وحفظ الباقين) حيث انهم ابلغوا المسؤولين والامام الخميني بما يحدث في ايران، قانونا وعملاً، من انتهاك للاسلام .

وبعضهم كان قد اتفق مع الامام الخميني قبيل انتصار الثورة على تطبيق الشريعة والا فلا، وبعض آخر كان يرى لزوم محاكمة كبار المسؤولين

وبعض ….

وهل سمع احد ذلك.

هل سمع احد خطبة المرحوم الكلبايكاني في حرمة لعب الشطرنج بعد ان اُعلن جوازاللعب به في ايران ؟

وهل سمع احد بسبب اغلاق مكاتب المرجعية في قم ومشهد ومنع المراجع من الاستفتاء وقبض الحقوق الشرعية ؟

وهل عرف احد او سمع القول الشهير الذي قاله (…) عندما قيل له :ان شريعتمدار سيموت لامحالة، فاسمح له بمغادرة البلاد للمعالجة، فقال بالفارسية: (بكذار بكنده) أي اتركه يتعفّن !!

وهل عرف احد بموضع دفن السيد شريعتمدار وما جرى عليه في المستشفى وعند الدفن ومن كان الموصي للصلاة عليه وماذا جرى لاسرته بعد ذلك ؟

وهل عرف احد من صفع السيد شريعتمدار ومن اجبره على قراءة ماقرأه مقابل التلفاز؟ والتفاصيل دُفن اكثرها بموت المرحوم الدكتور علي مصطفوي مدير مستشفى الوند في طهران .

واليوم وعند تشييع الامام الشرازي، ماذا حصل (من خطف الجثمان والدفن عنوة ومن دون موافقة بل، وعلم، الاسرة ومنع الاسرة من البكاء والاجتماع عند قبره) ؟

وهل صحيح مايُقال عن قتله في المستشفى ؟

وهل مكن مُدكر؟

فالمرجعية الشيعية تبذل جهدها الكثير لتحافظ على الكيان الشيعي او كما يسميه الفقهاء ( حفض بيضة الاسلام) .

اللهم عجل لوليك الفرج .

5/3/2002

واشنطن

شارك مع: