تريدان الغدرة (!)

قد يسمع المرء كلمات من ملوك، رؤساء، وأمراء، كانت واقعية في زمن علي بن ابي طالب عليه السلام في حكومته، لكنها اليوم شعارات ليس الا.
قد يقول احدهم: اذا رفضني الشعب سأغادر الحكم وأسلمه لمن هو أجدر مني لادارة البلاد.
ويقول الآخر: لولا التكليف الشرعي لكنت أبعد من في الوجود عن الحكم والسلطة.
ويقول آخر، والعشرات من هذه الأقاويل التي نسمعها منه، أو من أشخاص يخدمونه والنظام، وكل ذلك في سبيل ابقائه في السلطة، أو ابقاء سلطته، حتى وان بقي هو( ظاهرا) في الهامش.
وحتى نعرف الصدق من الكذب في اقوالهم، دعنا نتأمل في أفعالهم:
عندما يمنع الحكم معارضا سياسيا من مغادرة البلاد.
عندما يحكم عليه بالسجن، بحجج مختلفة، قد تكون واهية، وقد نجد لبعضها نوعا من المصداقية.
عندما يقرر الحاكم ان يضع مخالفا له في الاقامة الجبرية (من دون محاكمة عادلة كانت أو ظالمة) أو ينفيه الى بلد لاراحة فيه ولا… كما حصل لأبي ذر رضوان الله تعالى عليه.
عندما نجد وسائل الاعلام الحكومي، او السوشيال ميديا يشوهون سمعة شخص له قيمته أو وزنه في المجتمع، ولم نسمع من ادوات الحكم أية اعتراض على أمثال هذه الأعمال.
عندما تطلق عناصر النظام الطلقات الحقيقية في صدر، أو رأس من شارك في المظاهرات تعرضا للحكم.
عندما نجد سجون الأنظمة الشمولية مليئة بسجناء الرأي والعقيدة، أوعندما نجدهم يعتقلون من يغرد تغريدة يستشم منها التعرض للحكم ….؟
ماذا يعني كل ذلك،
فهل يمكن ان نقول أن الحكم لم يسمع أو لم يرى؟
هذه الأمور كلها اعتراضات و مواجهات بين الشعب المعترض، والحكومة التي تسعى وبكل قواها للبقاء في الحكم مهما كان الثمن.
لكن المعارض، بل والمشاغب، ومن ثبت أنه يريد الغدر ونكث البيعة في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام، كان حرا مالم يشهر السلاح، بل ومن شهر السلاح وحارب، لكنه ترك الحرب أو انجلت غبرة الحرب وانهزم أو ترك السلاح، نجد أن الامام عليه السلام تركه ولم يعاقبه، وأكثر من ذلك قال: اخواننا بغوعلينا …. لأن الامام أو الرئيس (سمي ماشئت) بمثابة الوالد الذي تمرد ابنه بسبب ما.
التاريخ يذكر لنا أجواء ما قبل وقعة الجمل:
لما بويع لعلي عليه السلام كتب إلى معاوية: أما بعد فإن الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة مني، و بايعوني عن مشورة منهم و اجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي و أوفد إلي أشراف أهل الشام قبلك.
فلما قدم رسوله على معاوية و قرأ كتابه بعث رجلا من بني عميس و كتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام و فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله الزبيرأميرالمؤمنين (!) من معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، أما بعد فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا و استوسقوا كما يستوسق الجلب، فدونك الكوفة و البصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب، فإنه لا شي‏ء بعد هذين المصرين، و قد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهرا الطلب بدم عثمان و ادعوا الناس إلى ذلك، و ليكن منكما الجد و التشمير أظفركما الله و خذل مناوئكما. .
فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سر به و أعلم به طلحة و أقرأه إياه، فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية، و أجمعا عند ذلك على خلاف علي عليه السلام .
وحينئذ جاء الزبير و طلحة إلى علي عليه السلام بعد البيعة بأيام، فقالا له: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها، و علمت رأي عثمان كان في بني أمية، و قد ولاك الله الخلافة من بعده، فولنا بعض أعمالك.
فقال لهما: ارضيا بقسم الله لكما حتى أرى رأيي، و اعلما أني لا أشرك في أمانتي إلا من أرضى بدينه و أمانته من أصحابي و من قد عرفت دخيلته.
فانصرفا عنه و قد دخلهما اليأس، فاستأذناه في العمرة .
طلب طلحة و الزبير من علي عليه السلام أن يوليهما المصرين البصرة و الكوفة، فقال: حتى أنظر، ثم استشار المغيرة بن شعبة فقال له: أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس، فخلا بابن عباس و قال: ما ترى؟
قال: يا أمير المؤمنين إن الكوفة و البصرة عين الخلافة و بهما كنوز الرجال و مكان طلحة و الزبير من الإسلام ما قد علمت، و لست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمرا.
فأخذ علي عليه السلام برأي ابن عباس، و قد كان استشار المغيرة أيضا في أمر معاوية فقال له: أرى إقراره على الشام و أن تبعث إليه بعده إلى أن يسكن شغب الناس و لك بعد رأيك.
فلم يأخذ برأيه .
فدخل الزبير و طلحة على علي عليه السلام فاستأذناه في العمرة (!)
فقال: ما العمرة تريدان (!)
فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة.
فقال لهما ما العمرة تريدان و إنما تريدان الغدرة و نكث البيعة.
فحلفا بالله ما الخلاف عليه و لا نكث بيعة يريدان، و ما رأيهما غير العمرة.
قال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية، فأعاداها بأشد ما يكون من الإيمان و المواثيق.
فأذن لهما.
فلما خرجا من عنده قال لمن كان حاضرا: و الله لا ترونهما إلا في فتنة يقتتلان فيها.
قالوا: يا أمير المؤمنين فمر بردهما عليك (أي امنعهما من السفر).
قال: ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
و لما خرج الزبير و طلحة من المدينة إلى مكة لم يلقيا أحدا إلا و قالا له ليس لعلي في أعناقنا بيعة و إنما بايعناه مكرهين….
يعني أنه وبعد علمه وتيقنه بغدرهما، تركهما وشأنهما حتى حصل ماحصل في الجمل وغيره..
بينما اليوم وحكامنا في الشرق الاوسط وغيره، بمجرد الظن بنشاط سياسي يتعارض والحكم، مهما كان ذلك النشاط، فالمنع من السفر على أقل تقدير، أو تسميمه كما حصل للمعارض الروسي في الاسبوع المنصرم.
هذا اذا لم يأمروا بقتله في الخارج بدعوى أنه انتحر(!!).
فما أعدلك يا أمير المؤمنين، وما أتعس الحكم والسلطة في الدنيا لغير المعصوم.
محمد تقي الذاكري
4 سبتمر 2020

مقالات فضيلة الشيخ في موقع (كتابات في الميزان)

شارك مع: