ابوذر الغفاري واسلوب التصدي

لايمكن التجرؤ على ابي ذر الغفاري ذلك الصحابي الجليل الذي صدقه رسول الله (ص) والأئمة عليهم السلام، الا انه هناك نصوص اخرى قد لايستفاد منها المدح، ولا القدح ايضا، ولكن قد تكون هذه النصوص في بيان واقعيات سيكولوجية ابوذر ومقدار استيعابه للنصوص الدينية، أومقدار قدراته في التعاطي مع القضايا، فكما انه هناك نصوص كثيرة في مدحه رحمه الله، هناك نصوص اخرى لاتدل على ذلك، وقد نتمكن من القول ان هذه النصوص لتحديد نشاط ابي ذر وتعيين مساحة عمله.

 

اولا: من هو ابوذر ؟

 

ابوذر هذا، هو جندب ابن جنادة، وقيل: جندب ابن سكن، مهاجري، من أشهر أصحاب علي (ع) وخاصته، حضر تشييع الزهراء سلام الله عليها، قال في حقه رسول الله(ص): ما أضلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.

وسئل الصادق (ع) عن هذا الخبر فصدقه.

وقوله (ص): أبوذر صديق هذه الامة. المصدرج3 ص 193. وذكر الشيخ الصدوق في معاني الأخبار عن الصادق (ع) في معنى هذا النص حديث مفصل.

وعن الباقر(ع) انه لم يرتد، اي بعد رسول الله (ص) وبقي على ولائه لعلي (ع) ومات في زمن عثمان في منفاه في الربذة، وهو القائل: أصبحت يومي هذا وأنا من أغنى الناس .. وقد أصبحت غنيا بولاية علي ابن ابي طالب وعترته عليهم السلام. المصدر ج3 ص 193.

 

ثانيا: لماذا قالوا فيه ؟

 

قال علي (ع) عند توديعه: يا أباذر، انك غضبت لله، ان القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، فامتحنوك بالقلا ونفوك الى الفلا، والله لوكانت السماوات والارض على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا. يا اباذر، لايؤنسك الا الحق، ولايوحشنك الا الباطل

والى مظمون كلام الامام (ع) أشارعثمان عندما أراد نفي ابي ذر الى الربذه: لاجمعني واياك دار، قد خرفت وذهب عقلك.

اذ ان في منطق الخلفاء ومن يحذوا حذوهم العقل في التقرب الى السلطان لا التشهيربجرائمه، حتى ان المعارض السياسي يبقي على شعرة ولايغلق على نفسه كل الابواب … وتصرفات ابي ذر تختلف عن الاساليب الاخرى، حتى عند أصحاب علي (ع).

ثم خاطب عثمان أزلامه وشرطته وقال: أخرجوه من بين يدي حتى تركبوه قتب ناقته بغيروطاء ثم انجوا به الناقة وتعتعوه حتى توصلوه الى الربذة فنزلوه بها من غير أنيس حتى يقضي الله ماهوقاض.

 

ثالثا: أين تكمن المشكلة ؟

 

هناك مواقف من ابي ذر رحمه الله تجاه الخلفاء الذين حكموا رقاب الناس بعد رسول الله (ص) كانت ناتجة عن فهم أبي ذرللنصوص الدينية مضافا الى ثقافته وقدراته ومقدار استيعابه، وهذا لم يكن نقصا اوقدحا في ابي ذر، لانه كان يواجه الحاكم بشكل يختلف عن غيره حتى من أصحاب علي (ع) فيبدأ بمناصحته أمام الناس، ثم يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر بطريقته الخاصة، وكان يفضح الاتفاقيات السرية والسرقات الحكومية و….

ولكن هذه الطريقة قد لايستوعبها آخرون من اقرانه آنذاك، ولذلك بقي وحيدا فريدا، كما قال رسول الله(ص).

هل الطريقة كانت غيرصحيحة، أو ان المجتمع انحرف عن الواقع واستعمل اسلوب التقية في غير وقتها؟

سئل الصادق (ع) عن سبب الخلافات الداخلية في عهد الخليفتين الثالث والرابع، واستقرار الوضع في زمن الاول والثاني، فقال (ع) بما مضمونه: الأول والثاني خلطوا بين الايمان والكفر، والناس كانوا راغبين بذلك، ولكن الثالث كان الكفر(او النفاق) المطلق وأمير المؤمنين (ع) حكم بين الناس بالايمان المطلق، والناس لايرغبون بذلك، ولذلك كان الاستقرار في الفترة الاولى وعدمه في الفترة الثانية.

فابي ذركان يذهب الى المثاليات، والمجتمع لم يكن راغبا بها، فحصل ما حصل، حتى انهم لم يتمكنوا من توديع أبي ذر، لخوفهم من الخليفة الذي منع من ذلك، لكن أمير المؤمنين واولاده (ع) لم يرضخوا لكلام الخليفة وحضروا توديعه واختلفوا مع مروان بن الحكم، وضرب الامام (ع) بسوطه بين اذني راحلة مروان، على حد تعبير ابن ابي الحديد.

فلوكان الناس يميلون الى المثاليات ويعملون بها، كما هو الامر في علي واولاده(ع) لتمكنوا من الصمود أمام وجه الحاكم في توديعه على الاقل.

 

رابعا: ابوذر حقيقة لاتنكر!

 

وهناك حقيقة لايمكن انكارها وهي ان ابوذر ايضا كان غير قادرعلى التأقلم مع الوضع السياسي والديني عند الحاكم، وكذلك عند الناس، ولم يكن قادرا على المهادنة مع الحاكم وحاشيته (او لم يرى من المصلحة الشرعية) أو انه مكلف بهذا الاسلوب، الا ان بعض النصوص قد تذهب الى الاحتمال الأول، فنحملها على بيان سيكلوجية ثقافة ابوذر في انتخابه اسلوب المواجهة وبهذه الطريقة بالذات.

فقد روي عن رسول الله (ص) انه قال (ص) لابي ذر: تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك. (المصدر ج 3 ص 192) حيث يستفاد من النص ان أمثال هذه التصرفات تبعد الآخرين عنك، فتبقى وحدك، وتموت وتبعث وحدك ايضا.

وفي المروي عن علي(ع): من كثر عتابه قل اصدقاؤه.

نعم، ويمكن حمل النص على ان أمثال ابي ذر في الصدق والامانة قلائل، فمثله كمثل الكبريت الاحمر.

لكن مارواه هو عن رسول الله (ص) يطرح السؤال من جديد، فقد روى عن النبي (ص) انه قال: يا أباذر، اني أحب لك ما أحب لنفسي، اني أراك ضعيفا، فلاتأمرن على اثنين، ولاتولين مال اليتيم. سفينة البحار ج1 ص 121.

ويمكن حمله ايضا على محامل اخرى، مثل ان نقول في الشق الاول من النص: ان المجتمع لايتمكن من تحمل هذا الاسلوب، فيتفرق عنه. وفي الشق الثاني باخلاصه وورعه يدافع عن اليتيم ويصرف له كل مابوسعه فيتأذى ابوذرأكثر من طاقته.

وعلى اية حال، لايمكن انكارفضل ابي ذر على الامة الاسلامية، فلولا لسانه وأسلوبه في التصدي وفضح جرائم الحاكم الظالم لما تمكن المسلمون من انقاذ بعض الحق.

فرحم الله ابوذر وأسكنه فسيح جنته

شارك مع: