المستشار مؤتمن
كثر الخلاف في المجتمعات الدينية المستهدفة من قبل الاستعمار، وبالأخص من قبل من يريد الترويج لعلم الجهل (!) و يريد للمسلمين الإبتعاد من المشاركة السياسية و… ليستفرد هو بالحكم وثروات بلاد الاسلام.
وفي داخل الأُسر، نظراً لمختلف الأسباب والعلل، نجد المجتمع الاسلامي على ابواب المحاكم العرفية، ولكل واحد منهم محامٍ و وكيل يدافع عنه، من دون ان يعلم ان المحامى يهدف الى تطويل الزمن والايقاع بالطرف الآخر في ورطة نتيجتها الظلم، وبالنتيجة أصبح المجتمع بين كماشتي الظالم والمظلوم.
بينما الاسلام وعقلاء المجتمع يعتقدون ان الترافع عند العقلاء والمشاورين وتقديم التنازلات الجزئية أكثر جدوائية وأقل كلفة وأنسب للجميع، و وعلى العموم فانه يحصل بالتراضي و من دون ظلم.
ونتيجة الابتعاد عن الظلم هو نزول البركة والرحمة الالهية، وبناء الثقة في المجتمع وللاجيال القادمة.
الشورى في اللغة:
في لسان العرب أخذ آراء الآخرين في موضوع ما لتحقيق مصلحة معينة لفرد واحد أو مجموعة من الأفراد، وأيضا هي استخراج الرأي الأنسب بتداول الآراء حول مسألة ما.
قال بعضهم: أن الشورى عملية يحدث فيها استخراج الآراء المتعددة في الأمر المعروض ممن يحسنون ذلك، وتقليبها وفحصها والموازنة بينها، واختبارها لاختيار أنفعها وأصلحها، والدلالة عليها، قال البدر العيني: “وحاصل معنى شاورته عرضت عليه أمري حتى يدلني على الصواب منه”.
و قال آخر: الشورى هي أخذ رأي أهل العلم والحكمة، أو أي فرد على اطلاع كبير ومعمق بأمر ما… و تقتضي الشورى استشارة صاحب الأمر أشخاصاً يتمتعون بصفات معينة، ومن هذه الصفات، الذكاء، والفطنة، والتعقل، وسداد الرأي، وكتمان السر، فمن الخطأ استشارة شخص متخاذل ولا يمتلك المعرفة، ومن الأفضل أن يكون المستشار مدركاً بصورة معمّقة للمجتمع وكل ما يدور حوله، فليس من الصواب (ربما) مشورة رجل طاعن في السن عفى عليه الزمن وخاصة في الأمور والقضايا الخاصة بالشباب، وللشورى أهمية بالغة.
الشورى في النصوص الدينية:
قال الحكيم في القران الكريم في ضرورة التشاور لادارة البلاد: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
وفي آية اخرى في الخلافات الاسرية: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا …)
وفي صفات المتقين او العقلاء قال تعالى:(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
وفي النصوص النبوية: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يشاور المسلمين في اغلب الامور وذلك لاشعارهم باهمية المشورة وأتخاذها ركناً أساسياً في المسيرة الايمانية والتي هو كان قائده، ومنها قوله صلى الله عليه وآله: ماخاب من استشار. وقال: ماشقى عبد اً قط بمشورة ولاسعد باستغناء رأى.
وعن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام: من أستبد برأيه هلك. وقال: ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم. وقال: لاتشاور كل من هب ودب اومن ياخذون نقاط الضعف …
وقال ايضاً: لاتدخلن في مشورتك بخيلاً فيعدل بك عن الفضل ويعدك بالفقر ،،،ولاحريصاً يزين لك الشر بالجور.
المستشار مؤتمن
عند حصول الاختلاف بين الزوجين، يلجأ الزوج او الزوجة الى المحاكم، وحتى يستكمل الملف ويأخذ طريقه لاحقاق الحق يتم الاتفاق مع محامى يعرف الطرق القانونية الملتوية للوصول الى الحقوق القانونية، وبعد الاتفاق يبدأ الطرفان العمل لصراع وشجار طويل.
المحامى يحسب اتعابه حسب الساعات، ويقنع موكله بالحقوق القانونية، كما يعلمه الطرق التي ربما يتمكن من التشبث بها لتركيع الخصم.
وعندها، اذا كان المحامى له دين ويعتقد بالمبادئ الانسانية والشرعية، يرشد موكله نحو الصلاح الحقيقي، ويبعده عن المحرمات الشرعية او الاخلاقية، لكن اذا كان مهتماً بدنياه، يأخذ بالقوانين التي تهدم بيت الخصم.
واليه أشار رسول الله صلى الله عليه وآله بلفظ : ” المستشار مؤتمن إن شاء أشار وإن شاء لم يشر ” .
وفي رواية عن علي عليه السلام بلفظ : ” المستشار مؤتمن ، فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه ”
وفي بعضها عن رسول الله صلى عليه وآله: فاني رأيته يصلي.
فالمستشار اذا انصف الخصم من نفسه ثم ارشد موكله، كان أكثر حقانيةً في عمله.
النصوص في الانصاف
عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : من أنصف الناس من نفسه رضي به حكما لغيره
وعنه عليهالسلام ايضاً قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : سيد الاعمال إنصاف الناس من نفسك ، ومواساة الاخ في الله وذكر الله على كل حال.
و عن أبي جعفر عليهالسلام قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام في كلام له : ألا انه من ينصف الناس من نفسه لم يزده الله إلا عزا.
و عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : ثلاث هم أقرب الخلق إلى الله يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب : رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه أن يحيف على من تحت يده ، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة ، ورجل قال بالحق فيما له وعليه.
و عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من واسى الفقير من ماله وأنصف الناس من نفسه فذلك المؤمن حقا.
وعن علي بن الحسين عليهالسلام قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول في آخر خطبته : طوبى لمن طاب خلقه ، وطهرت سجيته ، وصلحت سريرته ، وحسنت علانيته ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ، وأنصف الناس من نفسه.
و عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة : أنفق ولا تخف فقرا ، وافش السلام في العالم ، واترك المراء وإن كنت محقا ، وأنصف الناس من نفسك.
و عن أبي جعفر عليهالسلام قال : إن لله جنة لا يدخلها إلا ثلاثة أحدهم من حكم في نفسه بالحق.
وعن أبي عبدالله جعفر بن محمد عليهماالسلام قال : ألا اخبرك بأشد ما افترض الله على خلقه إنصاف الناس من أنفسهم ، ومواساة الاخوان في الله عزّ وجلّ ، وذكر الله عزّ وجلّ على كل حال ، فإن عرضت له طاعة عمل بها ، وإن عرضت له معصية تركها.
و عن علي بن ميمون الصائغ قال : سمعت أبا عبدالله الصادق عليهالسلام يقول : من أراد أن يسكنه جنته فليحسن خلقه ، وليعط النصفة من نفسه ، وليرحم اليتيم وليعن الضعيف ، وليتواضع لله الذي خلقه.
فالمحامي المنصف والناصح يُبعد موكله عن الصاق التهم للخصم ويحذره من العواقب، وإن كان ذلك يضر بمصالحه الآنية.
اضف الى ذلك: لوكان المحامي عاقلاً، او فطناً، يتمكن من ترشيد موكله نحو ماهو في صلاح الاسرة، أو الأولاد، حيث يمنع موكله من تصرفات تضر بمستقبل الاولاد.
فمثلاً يطلب الزوج اولاده من الزوجة التي يريد طلاقها، ويكون ذلك عادة عندما يريد الزوج اذلال زوجته، حيث أن الأم تتشبث بالاولاد دائماً، عندها يحث الزوج المحامي للبحث في الأدلة التي تؤدي الى ادانة الزوجة وبالنتيجة منعها من حضانة الاولاد، والحجة شرعية ايضاً لمن ينظر للملف في بادئ الأمر، إلا ان الطفل بحاجة الى الأم أكثر مما هو بحاجة اليه، فلو ارشده الوكيل بالنظر الى حاجة الطفل الى الأم، أو التأمل في مشاكل الأب عند مطالبته حضانة الاولاد و… والالتفاتة الى هذه النقطة هي اخلاقية، وليست شرعية حسب الظاهر، إلا أنه في مصلحة الاسرة والاولاد، ولم تخالف الشرع.
وهكذا لوكان المحامي معقداً نفسياً، أو بخيلاً في الصرف، أو مرتجعاً اجتماعياً، او مفارقاً زوجته وفي اجواء مؤسفة، فان استشاراته قد تكون مضرة في حق خصم الزوج، اذ أنه يعتقد ان المرأة ظالمة بطبيعة الحال.
فالأجدر ان يفكر الزوج ملياً قبل توكيل المحامي، وأن يكون حذراً في قبوله للاستشارات.
وهكذا الأمر بالنسبة للزوجة اذا كانت هي طالبة الطلاق، ولافرق بين كون الموكل رجلاً أو إمرأة.
هذه كله اذا لم يكن الزوج (أو الزوجة) معقداً نفسياً، أو يريد الانتقام من زوجته التي كانت تحبه سابقاً واشمأزت من تصرفاته وأصبحت لاتحبه الان، فهذا أمر مختلف تماماً، فإن فعله وتصرفاته غير متطابقة للشرع والعرف والعقل.
وحسب التجربة، اننا نجد ان الزوج لايعي في تصرفاته مع زوجته مما يؤدي فعله الى حصول برود في العلاقة بينه وزوجته، وبعد فترة نجد ان التي كانت تحبه وتموت فيه، أصبحت لاتطيق رؤيته، او العشرة معه.
وفي المجموع ارى ان التخاصم في داخل الأسرة (أو في اطار الشرع أوالتراضي) مع التعقل، هو أنسب وأقل كلفة، لكنه يحتاج الى تفهم وتقليل من التنازلات، و لايقال: ان التنازلات مكلفة ايضاً، فنقول: ان التنازل في اجواء المحبة لاتضر بالأنفس (جسماً وروحاً) وهي أيضاً أقل من التنازلات الجبرية التي يقدمها مع وجود المحامي وتحت راية القانون.
فحل التخاصم والمصالحة الشرعية تجذب رضى الله وإصلاح قلوب الطرفين، ولا ذنب عليهما البتة.
٢ شوال ١٤٣٨